بأيّ لغةٍ، بأيّ أدواتٍ، بأيّ أساليبَ وتقنيّاتٍ، بل خصوصًا بأيّ خلفيّاتٍ ودلالاتٍ، يوجّه النحّات والرسّام #مارون الحكيم التحيّة إلى بلاده في #معرضه ال#فنّيّ، نحتًا ورسمًا، في “غاليري أون 56″، الجميزة، المستمرّ إلى السادس من آب المقبل؟ أهي تحيّةٌ بالعاطفة، أم بالمجاملة، أم بالدعوة إلى مقاربة ما تعنيه له البلاد، وما تعيشه وتعانيه، وما تتوق إليه، من خلال مساءلة التشكيل المتنوّع والغوص على ملاعبه واختباراته، وتقديم رؤًى وسطوحٍ وأحجامٍ وفضاءاتٍ من شأنها “الثأر” فنّيًّا وعشقيًّا لهذه الأرض المعذّبة؟
36 لوحة بالأكريليك على قماش، بأحجامٍ كبيرةٍ ومتوسطّةٍ وصغيرة، و12 منحوتةً حجرًا ورخامًا وأونيكسًا، هي عدّة هذا “الثأر”، وعناصره، وأشكاله، ومحتواه، وخلاصته، وروحه. وهو “ثأرٌ” باللون، بالشكل، بالحجم، لا يبتغي قتلًا ولا عنفًا ولا شرًّا، بل يبتغي تظهير مكوّنات الحبّ والجمال والحرّيّة والكِبَر والأمومة والحنان، والإعراب عنها رسمًا ونحتًا، للانتقام من مكوّنات الخراب، والموت، والحقد، والكراهة والعفن… السياسيّ.
يلج الفنّان عوالم المأساة البيروتيّة اللبنانيّة، وخصوصًا تفجير مرفأ بيروت، وما أصاب المدينة وأهلها وبيوتها وبحرها وروحها من عطبٍ كيانيّ، فيعيد تشكيل هذه المأساة بلغته الفنّيّة، من دون أنْ توقعه المشهديّات والرؤى القياميّة والظلاميّة اليائسة في حبائلها. يختار ما يدلّ فنّيًّا على الكارثة، وما يرمز إليها، موظّفًا إيّاه في انشغالٍ اختباريّ، لونيّ، مشهديّ، انطباعيّ، تخييليّ، صاخب وهادئ في الآن نفسه.
ثمّة رؤيتان متكاملتان؛ الأولى يعالج فيها الحكيم العمارات القتيلة، والبحر القتيل، والجموع القتيلة، معالجةً تأويليّةً تستفيد من الواقع لكنّها لا ترضخ لغواياته، بل تستوعبه، وتتخطّاه، وتعيد تشكيله. لكأنّنا ونحن نشاهد اللوحات هذه، نرى مدينةً فنّيّةً متصالحةً مع عذاباتها وأوجاعها، غير متنكّرةٍ لها. فالفنّان لا يهرب من المأساة، بل يعيشها بألوانه وبتوتّرات وجدانه وبضربات فرشاته وريشته، فيستدرجها إلى مواطن سطوحه وقماشاته، حيث يستطيع أنْ يفعل فعله المغاير، مقترحًا مدينةً ثانيةً هي ابنة المدينة المخرّبة والمهيضة الجناح. هذه المدينة الثانية هي مقترح جماليّ ينمو في أرض الخراب لكنه يزهر فوق ركاماته، مضفيًا حالًا هي مزيجٌ من الوجع الرمزيّ الدفين ومن الامتلاء والغبطة وعدم الاستسلام.
وإذ تنهض لوحة المدينة من موتها، يهرع الفنّان بهذه الرؤية الأولى إلى الرؤية الثانية، إلى لوحة السهول، إلى الأودية، إلى القرى، إلى الجبال، إلى القمر، إلى النجوم، حيث يقدّم الحكيم مقترحًا جماليًّا يوازي المقترح المدينيّ (المأسويّ) الأوّل، ويقابله، ويؤاخيه، ويصادقه، من دون أنْ يتناقض وإيّاه.
وهنا، في هذه الثنائيّة، يكمن وجها المرآة، فتكتمل “التحيّة” بشقّيها، حيث يروح التشكيل يشفّ، ويسلس، ويلطف، ويغيم، ويتغاوى، ويغنّي، مطلقًا العنان لانطباعاته البصريّة والتخييليّة التي تغتذي من مشهديّات الأماكن “الفردوسيّة” التي وُلِد الفنّان ونشأ في ربوعها الجماليّة. ضربات الفرشاة تنمّ عن وعيٍ جماليّ مضبوط، يدرك التوازنات والتناغمات، فيشطح حيث ينبغي له أنْ يشطح، ويكتم ويقتصد حيث الكتمان المقتصد لزومٌ لا بدّ منه.
وإذا كان الرسم يأخذ حيّزًا كبيرًا من المعرض (36 لوحة)، فإنّ المنحوتات الاثنتي عشرة، بما تتّصف به من منعة وصلابة وعنفوان وأمومة رؤوم، تجسّد ذروة اختبارات الفنّان من خلال استنطاق الحجر ومعايير الحجم والفراغ والشكل والفضاء. هنا، لا عنف، لا شرّ، لا فساد، ولا خراب. بل الشكيمة الحنونة، العناد الليّن، والقوّة العذبة. وأعتقد أنّ هذه هي جوهر تحيّة النحّات الرسّام إلى بلاده.
المصدر : صحيفة النهار